سورة سبأ - تفسير تفسير الشوكاني

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
تفسير السورة  
الصفحة الرئيسية > القرآن الكريم > تفسير السورة   (سبأ)


        


قوله: {الحمد للَّهِ} تعريف الحمد مع لام الاختصاص مشعران باختصاص جميع أفراد الحمد بالله سبحانه على ما تقدم تحقيقه في فاتحة الكتاب، والموصول في محل جرّ على النعت، أو البدل، أو النصب على الاختصاص، أو الرفع على تقدير مبتدأ. ومعنى {لَّهُ مَا فِي السموات وَمَا فِي الأرض}: أن جميع ما هو فيها في ملكه، وتحت تصرفه يفعل به ما يشاء، ويحكم فيه بما يريد، وكل نعمة واصلة إلى العبد، فهي مما خلقه له، ومنّ به عليه، فحمده على ما في السموات والأرض هو: حمد له على النعم التي أنعم بها على خلقه مما خلقه لهم. ولما بين: أن الحمد الدنيوي من عباده الحامدين له مختص به بيّن أن الحمد الأخروي مختصّ به كذلك، فقال: {وَلَهُ الحمد فِى الأخرة}، وقوله: {له} متعلق بنفس الحمد، أو بما تعلق به خبر الحمد أعني: في الآخرة، فإنه متعلق بمتعلق عام هو: الاستقرار، أو نحوه، والمعنى: أن له سبحانه على الاختصاص حمد عباده الذين يحمدونه في الدار الآخرة إذا دخلوا الجنة، كما في قوله: {وَقَالُواْ الحمد للَّهِ الذى صَدَقَنَا وَعْدَهُ} [الزمر: 74] وقوله: {الحمد لِلَّهِ الذى هَدَانَا لهذا} [الأعراف: 43]، وقوله: {الحمد للَّهِ الذى أَذْهَبَ عَنَّا الحزن إِنَّ رَبَّنَا لَغَفُورٌ شَكُورٌ} [فاطر: 34] وقوله: {الذى أَحَلَّنَا دَارَ المقامة مِن فَضْلِهِ} [فاطر: 35]، وقوله: {وَآخِرُ دَعْوَاهُمْ أَنِ الحمد للَّهِ رَبِّ العالمين} [يونس: 10]، فهو سبحانه المحمود في الآخرة كما أنه المحمود في الدنيا، وهو: المالك للآخرة كما أنه المالك للدنيا {وَهُوَ الحكيم} الذي أحكم أمر الدارين {الخبير} بأمر خلقه فيهما قيل: والفرق بين الحمدين: أن الحمد في الدنيا عباده، وفي الآخرة تلذذ، وابتهاج، لأنه قد انقطع التكليف فيها.
ثم ذكر سبحانه بعض ما يحيط به علمه من أمور السموات، والأرض، فقال: {يَعْلَمُ مَا يَلْجُ فِى الأرض} أي: ما يدخل فيها من مطر، أو كنز، أو دفين {وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا} من زرع، ونبات، وحيوان {وَمَا يَنزِلُ مِنَ السماء} من الأمطار، والثلوج، والبرد، والصواعق، والبركات، ومن ذلك ما ينزل منها من ملائكته، وكتبه إلى أنبيائه {وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا} من الملائكة، وأعمال العباد. قرأ الجمهور: {ينزل} بفتح الياء، وتخفيف الزاي مسنداً إلى {ما}، وقرأ عليّ بن أبي طالب، والسلمي بضم الياء وتشديد الزاي مسنداً إلى الله سبحانه: {وَهُوَ الرحيم} بعباده {الغفور} لذنوبهم.
{وَقَالَ الذين كَفَرُواْ لاَ تَأْتِينَا الساعة} المراد بهؤلاء القائلين جنس الكفرة على الإطلاق، أو كفار مكة على الخصوص، ومعنى {لا تأتينا الساعة}: أنها لا تأتي بحال من الأحوال، إنكاراً منهم لوجودها لا لمجرد إتيانها في حال تكلمهم، أو في حال حياتهم مع تحقق وجودها فيما بعد، فردّ الله عليهم، وأمر رسوله أن يقول لهم: {قُلْ بلى وَرَبّى لَتَأْتِيَنَّكُمْ}، وهذا القسم لتأكيد الإتيان، قرأ الجمهور: {لتأتينكم} بالفوقية، أي الساعة، وقرأ طلق المعلم بالتحتية على تأويل الساعة باليوم، أو الوقت.
قال طلق: سمعت أشياخنا يقرءون بالياء: يعني: التحتية على المعنى، كأنه قال: ليأتينكم البعث، أو أمره كما قال: {هَلْ يَنْظُرُونَ إِلاَّ أَن تَأْتِيَهُمُ الملائكة أَوْ يَأْتِىَ أَمْرُ رَبّكَ} [النحل: 33]. قرأ نافع، وابن عامر: {عالم الغيب} بالرفع على أنه مبتدأ، وخبره: {لا يعزب}، أو على تقدير مبتدأ، وقرأ عاصم، وابن كثير، وأبو عمرو بالجرّ على أنه نعت لربي، وقرأ حمزة، والكسائي: {علام} بالجرّ مع صيغة المبالغة، ومعنى: {لاَ يَعْزُبُ}: لا يغيب عنه، ولا يستتر عليه، ولا يبعد {عَنْهُ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ فِى السموات وَلاَ فِى الأرض وَلاَ أَصْغَرُ مِن ذَلِكَ} المثقال: {وَلا أَكْبَرَ} منه {إِلاَّ فِى كتاب مُّبِينٍ}، وهو: اللوح المحفوظ. والمعنى: إلاّ وهو مثبت في اللوح المحفوظ الذي اشتمل على معلومات الله سبحانه، فهو مؤكد لنفي العزوب. قرأ الجمهور: {يعزب} بضم الزاي، وقرأ يحيى بن وثاب بكسرها. قال الفراء: والكسر أحبّ إليّ، وهما لغتان، يقال: عزب يعزب بالضم، ويعزب بالكسر إذا بعد، وغاب. وقرأ الجمهور: {ولا أصغر}، ولا {أكبر} بالرفع على الابتداء، والخبر: {إلاّ في كتاب}، أو على العطف على {مثقال}، وقرأ قتادة، والأعمش بنصبهما عطفاً على {ذرّة}، أو على أن لا هي لا التبرئة التي يبنى اسمها على الفتح.
واللام في {لِّيَجْزِيَ الذين آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات} للتعليل لقوله: {لتأتينكم} أي: إتيان الساعة فائدته جزاء المؤمنين بالثواب، والكافرين بالعقاب، والإشارة بقوله: {أولئك} إلى الموصول، أي: أولئك الذين آمنوا، وعملوا الصالحات {لَهُم مَّغْفِرَةٌ} لذنوبهم {وَرِزْقٌ كَرِيمٌ}، وهو الجنة بسبب إيمانهم، وعملهم الصالح مع التفضل عليهم من الله سبحانه. ثم ذكر فريق الكافرين الذين يعاقبون عند إتيان الساعة، فقال: {والذين سَعَوْاْ فِى ءاياتنا معاجزين} أي: سعوا في إبطال آياتنا المنزلة على الرسل، وقدحوا فيها، وصدّوا الناس عنها، ومعنى {معاجزين}: مسابقين يحسبون، أنهم يفوتوننا، ولا يدركون، وذلك باعتقادهم: أنهم لا يبعثون، يقال: عاجزه، وأعجزه: إذا غالبه، وسبقه. قرأ الجمهور: {معاجزين}، وقرأ ابن كثير، وابن محيصن، وحميد، ومجاهد، وأبو عمرو: {معجزين} أي مثبطين للناس عن الإيمان بالآيات {أولئك} أي: الذين سعوا {لَهُمْ عَذَابٌ مّن رّجْزٍ} الرجز هو: العذاب، فمن للبيان، وقيل: الرجز هو: أسوأ العذاب، وأشدّه، والأوّل أولى. ومن ذلك قوله: {فَأَنزَلْنَا عَلَى الذين ظَلَمُواْ رِجْزًا مّنَ السماء} [البقرة: 59]. قرأ الجمهور: {أَلِيمٌ} بالجرّ صفة لرجز. وقرأ ابن كثير، وحفص عن عاصم بالرفع صفة لعذاب، والأليم الشديد الألم.
{وَيَرَى الذين أُوتُواْ العلم الذى أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبّكَ هُوَ الحق} لما ذكر الذين سعوا في إبطال آيات الله ذكر الذين يؤمنون بها، ومعنى {وَيَرَى الذين أُوتُواْ العلم} أي: يعلمون، وهم الصحابة.
وقال مقاتل: هم: مؤمنو أهل الكتاب. وقيل: جميع المسلمين، والموصول هو المفعول الأوّل ليرى، والمفعول الثاني الحقّ، والضمير هو: ضمير الفصل. وبالنصب قرأ الجمهور، وقرأ ابن أبي عبلة بالرفع على أنه خبر الضمير، والجملة في محل نصب على أنها المفعول الثاني، وهي لغة تميم، فإنهم يرفعون ما بعد ضمير الفصل، وزعم الفرّاء: أن الاختيار الرفع، وخالفه غيره، وقالوا: النصب أكثر. قيل: وقوله: {يرى} معطوف على {ليجزي}، وبه قال الزجاج، والفراء، واعترض عليهما بأن قوله: {لِيَجْزِىَ} متعلق بقوله: {لَتَأْتِيَنَّكُمْ} ولا يقال: لتأتينكم الساعة ليرى الذين أوتوا العلم أن القرآن حق، والأولى أنه كلام مستأنف لدفع ما يقوله الذين سعوا في الآيات، أي: إن ذلك السعي منهم يدلّ على جهلهم؛ لأنهم مخالفون لما يعلمه أهل العلم في شأن القرآن {وَيَهْدِى إلى صِرَاطِ العزيز الحميد} معطوف على: {الحقّ} عطف فعل على اسم، لأنه في تأويله كما في قوله: {صافات وَيَقْبِضْنَ} [الملك: 19] أي: وقابضات، كأنه قيل: وهادياً. وقيل: إنه مستأنف، وفاعله ضمير يرجع إلى فاعل أنزل، وهو: القرآن. والصراط: الطريق، أي: ويهدي إلى طريق {العزيز} في ملكه {الحميد} عند خلقه، والمراد: أنه يهدي إلى دين الله، وهو: التوحيد.
ثم ذكر سبحانه نوعاً آخر من كلام منكري البعث، فقال: {وَقَالَ الذين كَفَرُواْ} أي: قال بعض لبعض: {هَلْ نَدُلُّكُمْ على رَجُلٍ}. يعنون: محمداً صلى الله عليه وسلم أي: هل نرشدكم إلى رجل {يُنَبّئُكُمْ} أي: يخبركم بأمر عجيب، ونبأ غريب هو: أنكم {إِذَا مُزّقْتُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ} أي: فرقتم كل تفريق، وقطعتم كل تقطيع، وصرتم بعد موتكم رفاتاً وتراباً {إِنَّكُمْ لَفِى خَلْقٍ جَدِيدٍ} أي: تخلقون خلقاً جديداً، وتبعثون من قبوركم أحياء، وتعودون إلى الصور التي كنتم عليها، قال هذا القول بعضهم لبعض استهزاء بما وعدهم الله على لسان رسوله من البعث.
وأخرجوا الكلام مخرج التلهي به، والتضاحك مما يقوله من ذلك، {وإذا} في موضع نصب بقوله: {مزقتم}. قال النحاس: ولا يجوز: أن يكون العامل فيها ينبئكم، لأنه ليس يخبرهم ذلك الوقت. ولا يجوز: أن يكون العامل فيها ما بعد إنّ؛ لأنه لا يعمل فيما قبلها. وأجاز الزجاج: أن يكون العامل فيها محذوفاً، والتقدير: إذا مزّقتم كل ممزّق بعثتم، أو نبئتم بأنكم تبعثون إذا مزقتم، وقال المهدوي: لا يجوز أن يعمل فيه مزقتم؛ لأنه مضاف إليه، والمضاف إليه لا يعمل في المضاف. وأصل المزق خرق الأشياء، يقال: ثوب مزيق، وممزق، ومتمزق، وممزوق.
ثم حكى سبحانه عن هؤلاء الكفار: أنهم ردّدوا ما وعدهم به رسول الله صلى الله عليه وسلم من البعث بين أمرين، فقالوا: {أفترى عَلَى الله كَذِباً أَم بِهِ جِنَّةٌ} أي: أهو كاذب فيما قاله أم به جنون بحيث لا يعقل ما يقوله، والهمزة في أفترى هي: همزة الاستفهام، وحذفت لأجلها همزة الوصل كما تقدّم في قوله: {أَطَّلَعَ الغيب} [مريم: 78]، ثم ردّ عليهم سبحانه ما قالوه في رسوله، فقال: {بَلِ الذين لاَ يُؤْمِنُونَ بالأخرة فِى العذاب والضلال البعيد} أي ليس الأمر كما زعموا، بل هم الذين ضلوا عن الفهم، وإدراك الحقائق، فكفروا بالآخرة، ولم يؤمنوا بما جاءهم به، فصاروا بسبب ذلك في العذاب الدائم في الآخرة، وهم اليوم في الضلال البعيد عن الحق غاية البعد.
ثم وبخهم سبحانه بما اجتر عليه من التكذيب مبيناً لهم أن ذلك لم يصدر منهم إلاّ لعدم التفكر، والتدبر في خلق السماء والأرض، وأن من قدر على هذا الخلق العظيم لا يعجزه أن يبعث من مخلوقاته ما هو دون ذلك، ويعيده إلى ما كان عليه من الذات والصفات، ومعنى {إلى مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ}: أنهم إذا نظروا رأوا السماء خلفهم، وقدّامهم، وكذلك إذا نظروا في الأرض رأوها خلفهم، وقدّامهم، فالسماء والأرض محيطتان بهم، فهو: القادر على أن ينزل بهم ما شاء من العذاب بسبب كفرهم، وتكذيبهم لرسوله، وإنكارهم للبعث، فهذه الآية اشتملت على أمرين: أحدهما: أن هذا الخلق الذي خلقه الله من السماء، والأرض يدلّ على كمال القدرة على ما هو دونه من البعث كما في قوله: {أَوَ لَيْسَ الذى خَلَقَ السموات والأرض بقادر على أَن يَخْلُقَ مِثْلَهُم} [يس: 81]. والأمر الآخر: التهديد لهم بأن من خلق السماء، والأرض على هذه الهيئة التي قد أحاطت بجميع المخلوقات فيهما قادر على تعجيل العذاب لهم {إِن نَّشَأْ نَخْسِفْ بِهِمُ الأرض} كما خسف بقارون {أَوْ نُسْقِطْ عَلَيْهِمْ كِسَفاً} أي: قطعاً {مّنَ السماء} كما أسقطها على أصحاب الأيكة، فكيف يأمنون ذلك. قرأ الجمهور: {إن نشأ} بنون العظمة، وكذا {نخسف}، {ونسقط}. وقرأ حمزة، والكسائي بالياء التحتية في الأفعال الثلاثة؛ أي: إن يشأ الله. وقرأ الكسائي وحده بإدغام الفاء في الباء في: {نخسف بهم}. قال أبو علي الفارسي: وذلك غير جائز؛ لأن الفاء من باطن الشفة السفلى، وأطراف الثنايا العليا بخلاف الباء، وقرأ الجمهور: {كسفا} بسكون السين. وقرأ حفص، والسلمي بفتحها. {إِنَّ فِى ذَلِكَ} المذكور من خلق السماء والأرض {لآيَةً} واضحة دلالة بينة {لّكُلّ عَبْدٍ مُّنِيبٍ} أي: راجع إلى ربه بالتوبة، والإخلاص، وخصّ المنيب؛ لأنه المنتفع بالتفكر.
وقد أخرج ابن أبي حاتم عن السدّي في قوله: {يَعْلَمُ مَا يَلْجُ فِى الأرض} قال: من المطر {وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا} قال: من النبات {وَمَا يَنزِلُ مِنَ السماء} قال: من الملائكة {وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا} قال: الملائكة، وأخرج عبد بن حميد، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم عن قتادة في قوله: {مّن رّجْزٍ أَلِيمٌ} قال: الرجز هو: العذاب الأليم الموجع، وفي قوله: {وَيَرَى الذين أُوتُواْ العلم} قال: أصحاب محمد.
وأخرج ابن أبي حاتم عن الضحاك في الآية قال: يعني: المؤمنين من أهل الكتاب.
وأخرج عبد الرزاق، وعبد بن حميد، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم عن قتادة في قوله: {وَقَالَ الذين كَفَرُواْ هَلْ نَدُلُّكُمْ على رَجُلٍ} قال: قال ذلك مشركو قريش {إِذَا مُزّقْتُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ} يقول: إذا أكلتكم الأرض، وصرتم رفاتاً وعظاماً، وتقطعتكم السباع، والطير {إِنَّكُمْ لَفِى خَلْقٍ جَدِيدٍ} إنكم ستحيون، وتبعثون، قالوا ذلك تكذيباً به {أفترى عَلَى الله كَذِباً أَم بِهِ جِنَّةٌ} قال: قالوا: إما أن يكون يكذب على الله، وإما أن يكون مجنوناً {أَفَلَمْ يَرَوْاْ إلى مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ مّنَ السماء والأرض} قالوا: إنك إن نظرت عن يمينك، وعن شمالك، ومن بين يديك، ومن خلفك رأيت السماء والأرض {إِن نَّشَأْ نَخْسِفْ بِهِمُ الأرض} كما خسفنا بمن كان قبلهم {أَوْ نُسْقِطْ عَلَيْهِمْ كِسَفاً مّنَ السماء} أي: قطعاً من السماء إن يشأ أن يعذب بسمائه فعل، وإن يشأ أن يعذب بأرضه فعل، وكل خلقه له جند {إِنَّ فِى ذَلِكَ لأَيَةً لّكُلّ عَبْدٍ مُّنِيبٍ} قال: تائب مقبل إلى الله.


ثم ذكر سبحانه من عباده المنيبين إليه داود، وسليمان كما قال في داود: {فاستغفر رَبَّهُ وَخَرَّ رَاكِعاً وَأَنَابَ} [ص: 24] وقال في سليمان: {وَأَلْقَيْنَا على كُرْسِيّهِ جَسَداً ثُمَّ أَنَابَ} [ص: 34]، فقال: {وَلَقَدْ ءاتَيْنَا دَاوُودُ مِنَّا فَضْلاً} أي: آتيناه بسبب إنابته فضلاً منا على سائر الأنبياء. واختلف في هذا الفضل على أقوال: فقيل: النبوّة. وقيل: الزبور. وقيل: العلم. وقيل: القوّة كما في قوله: {واذكر عَبْدَنَا دَاوُودُ ذَا الأيد} [ص: 17]. وقيل: تسخير الجبال كما في قوله: {ياجبال أَوّبِى مَعَهُ} وقيل: التوبة، وقيل: الحكم بالعدل كما في قوله: {ياداوود إِنَّا جعلناك خَلِيفَةً فِى الأرض فاحكم بَيْنَ الناس بالحق} [ص: 26]. وقيل: هو: إلاّنة الحديد كما في قوله: {وَأَلَنَّا لَهُ الحديد}، وقيل: حسن الصوت، والأولى أن يقال: إن هذا الفضل المذكور هو ما ذكره الله بعده من قوله: {يا جِبَالٍ} إلى آخر الآية، وجملة {ياجبال أَوّبِى مَعَهُ} مقدّرة بالقول، أي: قلنا يا جبال. والتأويب: التسبيح كما في قوله: {إِنَّا سَخَّرْنَا الجبال مَعَهُ يُسَبّحْنَ} [ص: 18]. قال أبو ميسرة: هو: التسبيح بلسان الحبشة. وكان إذا سبح داود سبحت معه، ومعنى تسبيح الجبال: أن الله يجعلها قادرة على ذلك، أو يخلق فيها التسبيح معجزة لداود. وقيل: معنى {أوّبي}: سيري معه، من التأويب الذي هو سير النهار أجمع، ومنه قول ابن مقبل:
لحقنا بحيّ أوّبوا السير بعد ما *** دفعنا شعاع الشمس والطرف مجنح
قرأ الجمهور: {أوّبى} بفتح الهمزة، وتشديد الواو على صيغة الأمر، من التأويب: وهو: الترجيع، أو التسبيح، أو السير، أو النوح. وقرأ ابن عباس، والحسن، وقتادة، وابن أبي إسحاق {أوبى} بضم الهمزة أمراً من آب يئوب: إذا رجع، أي: ارجعي معه. قرأ الجمهور: {والطير} بالنصب عطفاً على {فضلاً} على معنى: وسخرنا له الطير، لأن إيتاءه إياها تسخيرها له، أو عطفاً على محل: {يا جبال}؛ لأنه منصوب تقديراً، إذ المعنى: نادينا الجبال، والطير.
وقال سيبويه، وأبو عمرو بن العلاء: انتصابه بفعل مضمر على معنى: وسخرنا له الطير.
وقال الزجاج، والنحاس: يجوز: أن يكون مفعولاً معه كما تقول: استوى الماء، والخشبة.
وقال الكسائي: إنه معطوف على {فضلاً} لكن على تقدير مضاف محذوف، أي: آتيناه فضلاً، وتسبيح الطير. وقرأ السلمي، والأعرج، ويعقوب، وأبو نوفل، وابن أبي إسحاق، ونصر بن عاصم، وابن هرمز، ومسلمة بن عبد الملك بالرفع عطفاً على لفظ الجبال، أو على المضمر في: {أوّبي} لوقوع الفصل بين المعطوف، والمعطوف عليه {وَأَلَنَّا لَهُ الحديد} معطوف على {آتيناه} أي: جعلناه ليناً؛ ليعمل به ما شاء. قال الحسن: صار الحديد كالشمع يعمله من غير نار.
وقال السدّي: كان الحديد في يده كالطين المبلول، والعجين، والشمع يصرفه كيف يشاء من غير نار، ولا ضرب بمطرقة، وكذا قال مقاتل، وكان يفرغ من عمل الدرع في بعض يوم.
{أَنِ اعمل سابغات} في {أن} هذه وجهان: أحدهما: أنها مصدرية على حذف حرف الجرّ، أي: بأن اعمل، والثاني أنها المفسرة لقوله: {وَأَلَنَّا}، وفيه نظر؛ لأنها لا تكون إلاّ بعد القول، أو ما هو في معناه. وقدّر بعضهم فعلاً فيه معنى القول، فقال التقدير: وأمرناه أن أعمل. وقوله: {سابغات} صفة لموصوف محذوف، أي: دروعاً سابغات، والسابغات الكوامل الواسعات، يقال: سبغ الدرع، والثوب، وغيرهما: إذا غطى كل ما هو عليه، وفضل منه فضلة. {وَقَدّرْ فِى السرد} السرد نسج الدروع، ويقال: السرد والزرد كما يقال: السراد، والزراد لصانع الدروع، والسرد أيضاً الخرز. يقال: سرد يسرد: إذا خرز، ومنه سرد الكلام: إذا جاء به متوالياً، ومنه حديث عائشة: لم يكن النبي صلى الله عليه وسلم يسرد الحديث كسردكم. قال سيبويه: ومنه سريد: أي: جري، ومعنى سرد الدروع: إحكامها، وأن يكون نظم حلقها ولاء غير مختلف، ومنه قول لبيد:
سرد الدروع مضاعفاً أسراده *** لينال طول العيش غير مروم
وقول أبي ذؤيب الهذلي:
وعليهما مسرودتان قضاهما *** داود إذ صنع السوابغ تبع
قال قتادة: كانت الدروع قبل داود ثقالاً، فلذلك أمر هو بالتقدير فيما يجمع الخفة والحصانة، أي: قدّر ما تأخذ من هذين المعنيين بقسطه، فلا تقصد الحصانة فيثقل، ولا الخفة فيزيل المنعة، وقال ابن زيد: التقدير الذي أمر به هو في قدر الحلقة، أي: لا تعملها صغيرة فتضعف ولا يقوى الدرع على الدفاع، ولا تعملها كبيرة فتثقل على لابسها. وقيل: إن التقدير هو في المسمار، أي: لا تجعل مسمار الدرع دقيقاً فيقلق، ولا غليظاً فيفصم الحلق. ثم خاطب داود، وأهله، فقال: {واعملوا صالحا} أي: عملاً صالحاً كما في قوله: {اعملوا ءالَ دَاوُودُ شاكرا}، ثم علل الأمر بالعمل الصالح بقوله: {إِنّى بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} أي: لا يخفى عليّ شيء من ذلك.
{ولسليمان الريح} قرأ الجمهور: {الريح} بالنصب على تقدير: وسخرنا لسليمان الريح كما قال الزجاج، وقرأ عاصم في رواية أبي بكر عنه بالرفع على الابتداء، والخبر، أي: ولسليمان الريح ثابتة أو مسخرة، وقرأ الجمهور: {الريح}، وقرأ الحسن، وأبو حيوة، وخالد بن إلياس: {الرياح} بالجمع. {غُدُوُّهَا شَهْرٌ وَرَوَاحُهَا شَهْرٌ} أي: تسير بالغداة مسيرة شهر، وتسير بالعشي كذلك، والجملة إما مستأنفة لبيان تسخير الريح، أو في محل نصب على الحال. والمعنى: أنها كانت تسير في اليوم الواحد مسيرة شهرين. قال الحسن: كان يغدو من دمشق، فيقيل بإصطخر، وبينهما مسيرة شهر للمسرع، ثم يروح من إصطخر، فيبيت بكابل، وبينهما مسيرة شهر {وَأَسَلْنَا لَهُ عَيْنَ القطر} القطر: النحاس الذائب.
قال الواحدي: قال المفسرون: أجريت له عين الصفر ثلاثة أيام بلياليهن كجري الماء، وإنما يعمل الناس اليوم بما أعطي سليمان، والمعنى: أسلنا له عين النحاس كما ألنا الحديد لداود، وقال قتادة: أسال الله له عيناً يستعملها فيما يريد {وَمِنَ الجن مَن يَعْمَلُ بَيْنَ يَدَيْهِ بِإِذْنِ رَبّهِ} من مبتدأ، ويعمل خبره، ومن الجنّ متعلق به، أو بمحذوف على أنه حال، أو من يعمل معطوف على الريح، ومن الجنّ حال، والمعنى: وسخرنا له من يعمل بين يديه حال كونه من الجنّ بإذن ربه، أي: بأمره. والإذن مصدر مضاف إلى فاعله، والجار والمجرور في محل نصب على الحال، أي: مسخراً أو ميسراً بأمر ربه {وَمَن يَزِغْ مِنْهُمْ عَنْ أَمْرِنَا} أي: ومن يعدل من الجنّ عن أمرنا الذي أمرناه به: وهو: طاعة سليمان {نُذِقْهُ مِنْ عَذَابِ السعير} قال أكثر المفسرين: وذلك في الآخرة. وقيل: في الدنيا. قال السدّي: وكل الله بالجنّ ملكاً بيده سوط من نار، فمن زاغ عن أمر سليمان ضربه بذلك السوط ضربة فتحرقه.
ثم ذكر سبحانه ما يعمله الجنّ لسليمان، فقال: {يَعْمَلُونَ لَهُ مَا يَشَاء}، و{من} في قوله: {مِن محاريب} للبيان، والمحاريب في اللغة كل موضع مرتفع، وهي: الأبنية الرفيعة، والقصور العالية. قال المبرد: لا يكون المحراب إلاّ أن يرتقى إليه بدرج، ومنه قيل: للذي يصلي فيه: محراب؛ لأنه يرفع ويعظم.
وقال مجاهد: المحاريب دون القصور.
وقال أبو عبيدة: المحراب أشرف بيوت الدار، ومنه قول الشاعر:
وماذا عليه إن ذكرت أوانسا *** كغزلان رمل في محاريب أقيال
وقال الضحاك: المراد بالمحاريب هنا: المساجد، والتماثيل جمع تمثال، وهو كل شيء مثلته بشيء، أي: صوّرته بصورته من نحاس، أو زجاج، أو رخام، أو غير ذلك. قيل: كانت هذه التماثيل صور الأنبياء، والملائكة، والعلماء، والصلحاء، وكانوا يصوّرونها في المساجد؛ ليراها الناس، فيزدادوا عبادة واجتهاداً. وقيل: هي تماثيل أشياء ليست من الحيوان.
وقد استدل بهذا على أن التصوير كان مباحاً في شرع سليمان، ونسخ ذلك بشرع نبينا محمد صلى الله عليه وسلم. والجفان جمع جفنة، وهي: القصعة الكبيرة. {الجواب} جمع جابية، وهي: حفيرة كالحوض. وقيل: هي الحوض الكبير يجبي الماء، أي: يجمعه. قال الواحدي: قال المفسرون: يعني: قصاعاً في العظم كحياض الإبل يجتمع على القصعة الواحدة ألف رجل يأكلون منها. قال النحاس: الأولى إثبات الياء في الجوابي، ومن حذف الياء قال سبيل الألف واللام أن تدخل على النكرة فلا تغيرها عن حالها، فلما كان يقال جواب، ودخلت الألف واللام أقرّ على حاله، فحذف الياء. قال الكسائي: يقال: جبوت الماء، وجبيته في الحوض، أي: جمعته، والجابية الحوض الذي يجبى فيه الماء للإبل.
وقال النحاس: والجابية القدر العظيمة، والحوض العظيم الكبير الذي يجبى فيه الشي، أي: يجمع، ومنه جبيت الخراج، وجبيت الجراد: جمعته في الكساء {وَقُدُورٍ رسيات} قال قتادة: هي: قدور النحاس تكون بفارس، وقال الضحاك: هي: قدور تنحت من الجبال الصمّ عملتها له الشياطين. ومعنى {راسيات}. ثابتات لا تحمل، ولا تحرّك لعظمها. ثم أمرهم سبحانه بالعمل الصالح على العموم، أي: سليمان وأهله، فقال: {اعملوا ءالَ دَاوُودُ شاكرا} أي: وقلنا لهم اعملوا بطاعة الله يا آل داود شكراً له على ما آتاكم، أو اعملوا عملاً شكراً على أنه صفة مصدر محذوف، أو اعملوا للشكر على أنه مفعول له، أو حال، أي: شاكرين، أو مفعول به، وسميت الطاعة شكراً لأنها من جملة أنواعه، أو منصوب على المصدرية بفعل مقدّر من جنسه، أي: اشكروا شكراً. ثم بين بعد أمرهم بالشكر أن الشاكرين له من عباده ليسوا بالكثير، فقال: {وَقَلِيلٌ مّنْ عِبَادِىَ الشكور} أي: العامل بطاعتي الشاكر لنعمتي قليل. وارتفاع {قليل} على أنه خبر مقدّم، و{من عبادي} صفة له، والشكور مبتدأ.
{فَلَمَّا قَضَيْنَا عَلَيْهِ الموت} أي: حكمنا عليه به، وألزمناه إياه {مَا دَلَّهُمْ على مَوْتِهِ إِلاَّ دَابَّةُ الأَرْضِ} يعني: الأرضة. وقرئ. {الأرض} بفتح الراء، أي: الأكل، يقال: أرضت الخشبة أرضاً: إذا أكلتها الأرضة. ومعنى تأكل منسأته: تأكل عصاه التي كان متكئاً عليها، والمنسأة: العصا بلغة الحبشة، أو هي مأخوذة من نسأت الغنم، أي: زجرتها. قال الزجاج: المنسأة التي ينسأ بها: أي: يطرد. قرأ الجمهور: {منسأته} بهمزة مفتوحة. وقرأ ابن ذكوان بهمزة ساكنة. وقرأ نافع، وأبو عمرو بألف محضة. قال المبرد: بعض العرب يبدل من همزتها ألفاً، وأنشد:
إذا دببت على المنسأة من كبر *** فقد تباعد عنك اللهو والغزل
ومثل قراءة الجمهور قول الشاعر:
ضربنا بمنسأة وجهه *** فصار بذاك مهيناً ذليلا
ومثله:
أمن أجل حبل لا أباك ضربته *** بمنسأة قد جرّ حبلك أحبلا
ومما يدلّ على قراءة ابن ذكوان قول طرفة:
أمون كألواح الأران نسأتها *** على لاحب كأنه ظهر برجد
{فَلَمَّا خَرَّ} أي: سقط {تَبَيَّنَتِ الجن} أي: ظهر لهم، من تبينت الشيء: إذا علمته، أي: علمت الجن: {أَن لَّوْ كَانُواْ يَعْلَمُونَ الغيب مَا لَبِثُواْ فِى العذاب المهين} أي: لو صح ما يزعمونه من أنهم يعلمون الغيب لعلموا بموته، ولم يلبثوا بعد موته مدة طويلة في العذاب المهين في العمل الذي أمرهم به، والطاعة له، وهو إذ ذاك ميت. قال مقاتل: العذاب المهين: الشقاء، والنصب في العمل. قال الواحدي: قال المفسرون: كانت الناس في زمان سليمان يقولون: إن الجنّ تعلم الغيب، فلما مكث سليمان قائماً على عصاه حولاً ميتاً، والجنّ تعمل تلك الأعمال الشاقة التي كانت تعمل في حياة سليمان لا يشعرون بموته حتى أكلت الأرضة عصاه، فخرّ ميتاً، فعلموا بموته، وعلم الناس: أن الجنّ لا تعلم الغيب، ويجوز: أن يكون تبينت الجنّ من تبين الشيء، لا من تبينت الشيء، أي: ظهر، وتجلى، وأن وما في حيزها بدل اشتمال من الجنّ مع تقدير محذوف، أي: ظهر أمر الجن للناس أنهم لو كانوا يعلمون الغيب ما لبثوا في العذاب المهين، أو ظهر أن الجنّ لو كانوا يعلمون الغيب إلخ.
قرأ الجمهور: {تبينت} على البناء للفاعل مسنداً إلى الجنّ. وقرأ ابن عباس ويعقوب: {تبينت} على البناء للمفعول، ومعنى القراءتين يعرف مما قدّمنا.
وقد أخرج ابن أبي شيبة في المصنف، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله: {أَوّبِى مَعَهُ} قال: سبحي معه، وروي مثله عن أبي ميسرة، ومجاهد، وعكرمة، وقتادة، وابن زيد.
وأخرج ابن المنذر عن ابن عباس في قوله: {وَأَلَنَّا لَهُ الحديد} قال: كالعجين.
وأخرج ابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم من طرق عنه أيضاً في قوله: {وَقَدّرْ فِى السرد} قال: حلق الحديد.
وأخرج عبد الرّزّاق، والحاكم عنه أيضاً {وَقَدّرْ فِى السرد} قال: لا تدقّ المسامير، وتوسع الحلق، فتسلس، ولا تغلظ المسامير، وتضيق الحلق، فتقصم، واجعله قدراً.
وأخرج ابن أبي شيبة، وعبد بن حميد، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم من طرق عنه أيضاً في قوله: {وَأَسَلْنَا لَهُ عَيْنَ القطر} قال النحاس.
وأخرج ابن المنذر عنه أيضاً قال: القطر النحاس لم يقدر عليها أحد بعد سليمان، وإنما يعمل الناس بعده فيما كان أعطي سليمان.
وأخرج عبد بن حميد عن مجاهد قال: القطر الصفر.
وأخرج الحكيم الترمذي في نوادر الأصول عن ابن عباس في قوله: {وتماثيل} قال: اتخذ سليمان تماثيل من نحاس فقال: يا ربّ انفخ فيها الروح، فإنها أقوى على الخدمة، فنفخ الله فيها الروح، فكانت تخدمه، وكان اسفنديار من بقاياهم، فقيل لداود وسليمان: {اعملوا ءالَ دَاوُودُ شُكْراً وَقَلِيلٌ مّنْ عِبَادِىَ الشكور}.
وأخرج ابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم عنه في قوله: {كالجواب} قال: كالجوبة من الأرض {وَقُدُورٍ رسيات} قال: أثافيها منها.
وأخرج ابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم عنه أيضاً في قوله: {وَقَلِيلٌ مّنْ عِبَادِىَ الشكور} يقول: قليل من عبادي الموحدين توحيدهم.
وأخرج هؤلاء عنه أيضاً قال: لبث سليمان على عصاه حولاً بعد ما مات، ثم خرّ على رأس الحول، فأخذت الجنّ عصي مثل عصاه، ودابة مثل دابته، فأرسلوها عليها، فأكلتها في سنة، وكان ابن عباس يقرأ: {فَلَمَّا خَرَّ تَبَيَّنَتِ الجن} الآية، قال سفيان: وفي قراءة ابن مسعود: {وهم يدأبون له حولاً}.
وأخرج البزار، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، والطبراني، وابن السني، وابن مردويه عن ابن عباس، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «كان سليمان إذا صلى رأى شجرة نابتة بين يديه، فيقول لها: ما اسمك؟ فتقول: كذا، وكذا، فيقول: لما أنت؟ فتقول: لكذا، وكذا، فإن كانت لغرس غرست، وإن كانت لدواء كتبت، وصلى ذات يوم، فإذا شجرة نابتة بين يديه، فقال لها: ما اسمك؟ قالت: الخروب؟ قال: لأيّ شيء أنت؟ قالت: لخراب هذا البيت، فقال سليمان: اللهم عمّ عن الجنّ موتي حتى يعلم الإنس أن الجنّ لا يعلمون الغيب، فهيأ عصا، فتوكأ عليها، وقبضه الله، وهو متكئ عليها، فمكث حولاً ميتاً، والجنّ تعمل، فأكلتها الأرضة، فسقطت، فعلموا عند ذلك بموته، فتبينت الإنس {أن} الجنّ {لَّوْ كَانُواْ يَعْلَمُونَ الغيب مَا لَبِثُواْ فِى العذاب المهين}» وكان ابن عباس يقرؤها كذلك، فشكرت الجنّ للأرضة، فأينما كانت يأتونها بالماء.
وأخرجه الحاكم وصححه عن ابن عباس موقوفاً، وأخرج الديلمي عن زيد بن أرقم مرفوعاً يقول الله عزّ وجلّ«إني تفضلت على عبادي بثلاث: ألقيت الدابة على الحبة، ولولا ذلك لكنزها الملوك كما يكنزون الذهب، والفضة، وألقيت النتن على الجسد، ولولا ذلك لم يدفن حبيب حبيبه، واستلبت الحزن، ولولا ذلك لذهب النسل».


لما ذكر سبحانه حال بعض الشاكرين لنعمه عقبه بحال بعض الجاحدين لها، فقال: {لَقَدْ كَانَ لِسَبَإٍ} المراد بسبأ القبيلة التي هي من أولاد سبأ، وهو: سبأ بن يشجب بن يعرب بن قحطان بن هود. قرأ الجمهور: {لسبأ} بالجرّ والتنوين على أنه اسم حيّ، أي: الحيّ الذين هم: أولاد سبأ، وقرأ ابن كثير، وأبو عمرو: {لسبأ} ممنوع الصرف بتأويل القبيلة، واختار هذه القراءة أبو عبيد، ويقوّي القراءة الأولى قوله: {فِى مساكنهم}، ولو كان على تأويل القبيلة لقال: في مساكنها، فمما ورد على القراءة الأولى قول الشاعر:
الواردون وتيم في ذرى سبأ *** قد عضّ أعناقها جلد الجواميس
ومما ورد على القراءة الثانية قول الشاعر:
من سبأ الحاضرين مأرب إذ *** يبنون من دون مسيله العرما
وقرأ قنبل، وأبو حيوة، والجحدري: {لسبأ} بإسكان الهمزة، وقرئ بقلبها ألفاً. وقرأ الجمهور: {فِى مساكنهم} على الجمع، واختار هذه القراءة أبو عبيد، وأبو حاتم، ووجه الاختيار: أنها كانت لهم منازل كثيرة، ومساكن متعدّدة. وقرأ حمزة، وحفص بالإفراد مع فتح الكاف. وقرأ الكسائي بالإفراد مع كسرها، وبهذه القراءة قرأ يحيى بن وثاب، والأعمش، ووجه الإفراد: أنه مصدر يشمل القليل، والكثير، أو اسم مكان، وأريد به معنى: الجمع، وهذه المساكن التي كانت لهم هي: التي يقال لها الآن: مأرب، وبينها وبين صنعاء مسيرة ثلاث ليال، ومعنى قوله: {ءايَةً} أي: علامة دالة على كمال قدرة الله، وبديع صنعه، ثم بين هذه الآية، فقال: {جَنَّتَانِ}، وارتفاعهما على البدل من آية قاله الفراء، أو على أنهما خبر مبتدأ محذوف قاله الزجاج، أو على أنهما مبتدأ، وخبره: {عَن يَمِينٍ وَشِمَالٍ}، واختار هذا الوجه ابن عطية، وفيه أنه لا يجوز الابتداء بالنكرة من غير مسوّغ، وقرأ ابن أبي عبلة: {جنتين} بالنصب على أنهما خبر ثان، واسمها: آية، وهاتان الجنتان كانتا عن يمين واديهم وشماله، قد أحاطتا به من جهتيه، وكانت مساكنهم في الوادي، والآية هي: الجنتان، كانت المرأة تمشي فيهما، وعلى رأسها المكتل، فيمتلئ من أنواع الفواكه التي تتساقط من غير أن تمسها بيدها.
وقال عبد الرحمن بن زيد: إن الآية التي كانت لأهل سبأ في مساكنهم أنهم لم يروا فيها بعوضة، ولا ذباباً، ولا برغوثاً، ولا قملة، ولا عقرباً، ولا حية، ولا غير ذلك من الهوام، وإذا جاءهم الركب في ثيابهم القمل ماتت عند رؤيتهم لبيوتهم. قال القشيري: ولم يرد جنتين اثنتين، بل أراد من الجهتين يمنة ويسرة في كل جهة بساتين كثيرة {كُلُواْ مِن رّزْقِ رَبّكُمْ} أي: قيل لهم ذلك، ولم يكن ثم أمر، ولكن المراد تمكينهم من تلك النعم.
وقيل: إنها قالت لهم الملائكة، والمراد بالرزق هو: ثمار الجنتين. وقيل: إنهم خوطبوا بذلك على لسان نبيهم {واشكروا لَهُ} على ما رزقكم من هذه النعم، واعملوا بطاعته، واجتنبوا معاصيه، وجملة: {بَلْدَةٌ طَيّبَةٌ وَرَبٌّ غَفُورٌ} مستأنفة لبيان موجب الشكر. والمعنى: هذه بلدة طيبة لكثرة أشجارها، وطيب ثمارها. وقيل: معنى كونها طيبة: أنها غير سبخة، وقيل: ليس فيها هوامّ.
وقال مجاهد: هي: صنعاء. ومعنى: {وَرَبٌّ غَفُورٌ}: أن المنعم عليهم ربّ غفور لذنوبهم. قال مقاتل: المعنى: وربكم إن شكرتم فيما رزقكم ربّ غفور للذنوب. وقيل: إنما جمع لهم بين طيب البلدة والمغفرة للإشارة إلى أن الرزق قد يكون فيه حرام. وقرأ ورش بنصب بلدة، وربّ على المدح، أو على تقدير اسكنوا بلدة، واشكروا رباً.
ثم ذكر سبحانه ما كان منهم بعد هذه النعمة التي أنعم بها عليهم، فقال: {فَأَعْرِضُواْ} عن الشكر، وكفروا بالله، وكذبوا أنبياءهم قال السدّي: بعث الله إلى أهل سبأ ثلاثة عشر نبياً، فكذبوهم، وكذا قال وهب. ثم لما وقع منهم الإعراض عن شكر النعمة أرسل الله عليهم نقمة سلب بها ما أنعم به عليهم، فقال: {فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ سَيْلَ العرم}، وذلك أن الماء كان يأتي أرض سبأ من أودية اليمن، فردموا ردماً بين جبلين، وحبسوا الماء. وجعلوا في ذلك الردم ثلاثة أبواب بعضها فوق بعض، وكانوا يسقون من الباب الأعلى، ثم من الباب الثاني، ثم من الثالث، فأخصبوا، وكثرت أموالهم، فلما كذبوا رسلهم بعث الله جرذاً، ففتقت ذلك الردم حتى انتقض، فدخل الماء جنتهم، فغرقها، ودفن السيل بيوتهم، فهذا هو سيل العرم، وهو جمع عرمة وهي: السكر التي تحبس الماء، وكذا قال قتادة، وغيره.
وقال السدّي: العرم اسم للسدّ. والمعنى: أرسلنا عليهم سيل السدّ العرم.
وقال عطاء: العرم اسم الوادي.
وقال الزجاج: العرم اسم الجرذ الذي نقب السدّ عليهم، وهو الذي يقال له: الخلد: فنسب السيل إليه لكونه سبب جريانه. قال ابن الأعرابي: العرم من أسماء الفأر.
وقال مجاهد، وابن أبي نجيح: العرم ماء أحمر أرسله الله في السدّ، فشقه، وهدمه. وقيل: إن العرم اسم المطر الشديد. وقيل: اسم للسيل الشديد، والعرامة في الأصل: الشدّة، والشراسة، والصعوبة. يقال: عرم فلان: إذا تشدّد، وتصعب، وروي عن ابن الأعرابي أنه قال: العرم السيل الذي لا يطاق.
وقال المبرّد: العرم كل شيء حاجز بين شيئين.
{وبدلناهم بجناتهم جَنَّتَيْنِ} أي: أهلكنا جنتيهم اللتين كانتا مشتملتين على تلك الفواكه الطيبة، والأنواع الحسنة، وأعطيناهم بدلهما جنتين لا خير فيهما، ولا فائدة لهم فيما هو نابت فيهما، ولهذا قال: {ذَوَاتَىْ أُكُلٍ خَمْطٍ} قرأ الجمهور بتنوين: {أكل}، وعدم إضافته إلى {خمط}، وقرأ أبو عمرو بالإضافة. قال الخليل: الخمط الأراك، وكذا قال كثير من المفسرين.
وقال أبو عبيدة: الخمط كل شجرة مرّة ذات شوك.
وقال الزجاج: كل نبت فيه مرارة لا يمكن أكله.
وقال المبرّد: كل شيء تغير إلى ما لا يشتهى يقال له: خمط، ومنه اللبن إذا تغير، وقراءة الجمهور أولى من قراءة أبي عمرو. والخمط نعت لأكل، أو بدل منه، لأن الأكل هو: الخمط بعينه.
وقال الأخفش: الإضافة أحسن في كلام العرب: مثل ثوب خزّ، ودار آجرّ، والأولى تفسير الخمط بما ذكره الخليل ومن معه. قال الجوهري: الخمط ضرب من الأراك له حمل يؤكل، وتسمية البدل جنتين للمشاكلة، أو التهكم بهم، والأثل هو: الشجر المعروف الشبيه بالطرفاء كذا قال الفراء وغيره قال: إلاّ أنه أعظم من الطرفاء طولاً، الواحدة أثلة، والجمع أثلاث.
وقال الحسن: الأثل الخشب.
وقال أبو عبيدة: هو: شجر النطار، والأوّل أولى، ولا ثمر للأثل. والسدر شجر معروف. قال الفراء: هو: السمر. قال الأزهري: السدر من الشجر سدران: بريّ لا ينتفع به، ولا يصلح للغسول، وله ثمر عفص لا يؤكل، وهو الذي يسمى: الضال. والثاني سدر ينبت على الماء، وثمره النبق، وورقه غسول يشبه شجر العناب، قيل: ووصف السدر بالقلة لأن منه نوعاً يطيب أكله، وهو النوع الثاني الذي ذكره الأزهري. قال قتادة: بينما شجرهم من خير شجر إذ صيره الله من شرّ الشجر بأعمالهم، فأهلك أشجارهم المثمرة، وأنبت بدلها الأراك، والطرفاء والسدر. ويحتمل: أن يرجع قوله: {قَلِيلٌ} إلى جميع ما ذكر من الخمط والأثل والسدر.
والإشارة بقوله: {ذلك} إلى ما تقدّم من التبديل، أو إلى مصدر {جزيناهم} والباء في {بِمَا كَفَرُواْ} للسببية، أي: ذلك التبديل، أو ذلك الجزاء بسبب كفرهم للنعمة بإعراضهم عن شكرها {وَهَلْ نُجْزِى إِلاَّ الكفور} أي: وهل نجازي هذا الجزاء بسلب النعمة، ونزول النقمة إلاّ الشديد الكفر المتبالغ فيه. قرأ الجمهور: {يجازى} بضم التحتية، وفتح الزاي على البناء للمفعول. وقرأ حمزة، والكسائي، ويعقوب، وحفص بالنون، وكسر الزاي على البناء للفاعل، وهو: الله سبحانه، والكفور على القراءة الأولى مرفوع، وعلى القراءة الثانية منصوب، واختار القراءة الثانية أبو عبيد، وأبو حاتم قالا: لأن قبله {جزيناهم}، وظاهر الآية: أنه لا يجازى إلاّ الكفور مع كون أهل المعاصي يجازون، وقد قال قوم: إن معنى الآية: أنه لا يجازى هذا الجزاء، وهو الاصطلام، والإهلاك إلاّ من كفر.
وقال مجاهد: إن المؤمن يكفر عنه سيئاته، والكافر يجازى بكل عمل عمله.
وقال طاووس: هو: المناقشة في الحساب، وأما المؤمن، فلا يناقش.
وقال الحسن: إن المعنى: إنه يجازي الكافر مثلاً بمثل، ورجح هذا الجواب النحاس.
{وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ القرى التى بَارَكْنَا فِيهَا} هذا معطوف على قوله: {لَقَدْ كَانَ لِسَبَإٍ} أي: وكان من قصتهم: أنا جعلنا بينهم، وبين القرى التي باركنا فيها بالماء، والشجر، وهي: قرى الشام {قُرًى ظاهرة} أي: متواصلة، وكان متجرهم من أرضهم التي هي مأرب إلى الشام، وكانوا يبيتون بقرية، ويقيلون بأخرى حتى يرجعوا، وكانوا لا يحتاجون إلى زاد يحملونه من أرضهم إلى الشام، فهذا من جملة الحكاية لما أنعم الله به عليهم.
قال الحسن: إن هذه القرى هي بين اليمن والشام. قيل: إنها كانت أربعة آلاف وسبعمائة قرية. وقيل: هي بين المدينة والشام.
وقال المبرّد: القرى الظاهرة هي المعروفة، وإنما قيل لها ظاهرة لظهورها، إذا خرجت من هذه ظهرت لك الأخرى، فكانت قرى ظاهرة، أي معروفة، يقال: هذا أمر ظاهر، أي: معروف {وَقَدَّرْنَا فِيهَا السير} أي: جعلنا السير من القرية إلى القرية مقداراً معيناً واحداً، وذلك نصف يوم كما قال المفسرون. قال الفرّاء: أي: جعلنا بين كل قريتين نصف يوم حتى يكون المقيل في قرية، والمبيت في أخرى إلى أن يصل إلى الشام، وإنما يبالغ الإنسان في السير لعدم الزاد، والماء، ولخوف الطريق، فإذا وجد الزاد، والأمن لم يحمل نفسه المشقة، بل ينزل أينما أراد. والحاصل: أن الله سبحانه عدّد عليهم النعم، ثم ذكر ما نزل بهم من النقم، ثم عاد لتعديد بقية ما أنعم به عليهم مما هو خارج عن بلدهم من اتصال القرى بينهم، وبين ما يريدون السفر إليه، ثم ذكر بعد ذلك تبديله بالمفاوز والبراري كما سيأتي وقوله: {سِيرُواْ فِيهَا} هو على تقدير القول، أي: وقلنا لهم سيروا في تلك القرى المتصلة، فهو أمر تمكين أي: ومكناهم من السير فيها متى شاءوا {لَيَالِيَ وَأَيَّاماً آمِنِينَ} مما يخافونه، وانتصاب {ليالي} و{أياماً} على الظرفية. وانتصاب {آمنين} على الحال. قال قتادة: كانوا يسيرون غير خائفين، ولا جياع، ولا ظمأ، كانوا يسيرون مسيرة أربعة أشهر في أمان لا يحرّك بعضهم بعضاً، ولو لقي الرجل قاتل أبيه لم يحرّكه.
ثم ذكر سبحانه: أنهم لم يشكروا النعمة، بل طلبوا التعب والكد. {فَقَالُواْ رَبَّنَا باعد بَيْنَ أَسْفَارِنَا} وكان هذا القول منهم بطراً وطغياناً لما سئموا النعمة، ولم يصبروا على العافية، فتمنوا طول الأسفار، والتباعد بين الديار، وسألوا الله تعالى: أن يجعل بينهم وبين الشام مكان تلك القرى المتواصلة الكثيرة الماء، والشجر، والأمن، والمفاوز، والقفار، والبراري المتباعدة الأقطار، فأجابهم الله إلى ذلك، وخرّب تلك القرى المتواصلة، وذهب بما فيها من الخير، والماء، والشجر، فكانت دعوتهم هذه كدعوة بني إسرائيل حيث قالوا: {فادع لَنَا رَبَّكَ يُخْرِجْ لَنَا مِمَّا تُنبِتُ الارض مِن بَقْلِهَا} [البقرة: 61] الآية مكان المنّ والسلوى، وكقول النضر بن الحارث {اللهم إِن كَانَ هذا هُوَ الحق مِنْ عِندِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مّنَ السماء} [الأنفال: 32] الآية. قرأ الجمهور {ربنا} بالنصب على أنه منادى مضاف، وقرءوا أيضاً: {باعد} وقرأ ابن كثير، وأبو عمرو، وابن محيصن، وهشام عن ابن عامر: {بعد} بتشديد العين، وقرأ ابن السميفع بضم العين فعلاً ماضياً، فيكون معنى هذه القراءة: الشكوى من بعد الأسفار، وقرأ أبو صالح، ومحمد بن الحنفية، وأبو العالية، ونصر بن عاصم، ويعقوب: {ربنا} بالرفع: {باعد} بفتح العين على أنه فعل ماض على الابتداء، والخبر.
والمعنى: لقد باعد ربنا بين أسفارنا، ورويت هذه القراءة عن ابن عباس، واختارها أبو حاتم، قال: لأنهم ما طلبوا التبعيد إنما طلبوا أقرب من ذلك القرب الذي كان بينهم وبين الشام بالقرى المتواصلة بطراً، وأشراً، وكفراً للنعمة. وقرأ يحيى بن يعمر، وعيسى بن عمر: {ربنا} بالرفع، {بعد} بفتح العين مشدّدة، فيكون معنى هذه القراءة: الشكوى بأن ربهم بعد بين أسفارهم مع كونها قريبة متصلة بالقرى، والشجر، والماء، فيكون هذا من جملة بطرهم، وقرأ أخو الحسن البصري كقراءة ابن السميفع السابقة مع رفع بين على أنه الفاعل كما قيل: في قوله: {لَقَد تَّقَطَّعَ بَيْنَكُمْ} [الأنعام: 94].
وروى الفرّاء، والزجاج قراءة مثل هذه القراءة لكن مع نصب بين على أنه ظرف، والتقدير: بعد سيرنا بين أسفارنا. قال النحاس: وهذه القراءات إذا اختلفت معانيها لم يجز أن يقال: إحداها أجود من الأخرى كما لا يقال ذلك في أخبار الآحاد إذا ا ختلفت معانيها، ولكن أخبر عنهم: أنهم دعوا ربهم أن يبعد بين أسفارهم، فلما فعل ذلك بهم شكوا، وتضرّروا، ولهذا قال سبحانه: {وَظَلَمُواْ أَنفُسَهُمْ} حيث كفروا بالله، وبطروا نعمته، وتعرّضوا لنقمته {فجعلناهم أَحَادِيثَ} يتحدّث الناس بأخبارهم. والمعنى: جعلناهم ذوي أحاديث يتحدّث بها من بعدهم تعجباً من فعلهم، واعتباراً بحالهم، وعاقبتهم {ومزقناهم كُلَّ مُمَزَّقٍ} أي: فرّقناهم في كل وجه من البلاد كل التفريق، وهذه الجملة مبينة لجعلهم أحاديث، وذلك أن الله سبحانه لما أغرق مكانهم، وأذهب جنتهم، تفرّقوا في البلاد، فصارت العرب تضرب بهم الأمثال. فتقول: تفرّقوا أيدي سبا. قال الشعبي: فلحقت الأنصار بيثرب، وغسان بالشام، والأزد بعمان، وخزاعة بتهامة {إِنَّ فِى ذَلِكَ لأَيَاتٍ} أي: فيما ذكر من قصتهم، وما فعل الله بهم لآيات بينات، ودلالات واضحات {لّكُلّ صَبَّارٍ شَكُورٍ} أي: لكل من هو كثير الصبر، والشكر، وخصّ الصبار الشكور، لأنهما المنتفعان بالمواعظ والآيات.
{وَلَقَدْ صَدَّقَ عَلَيْهِمْ إِبْلِيسُ ظَنَّهُ} قرأ الجمهور: {صدق} بالتخفيف، ورفع: {إبليس}، ونصب {ظنه}. قال الزجاج: وهو على المصدر، أي: صدق عليهم ظناً ظنه، أو صدق في ظنه، أو على الظرف. والمعنى: أنه ظنّ بهم: أنه إذا أغواهم اتبعوه، فوجدهم كذلك، ويجوز: أن يكون منتصباً على المفعولية، أو بإسقاط الخافض. وقرأ حمزة، والكسائي، ويحيى بن وثاب، والأعمش، وعاصم: {صدق} بالتشديد، و{ظنه} بالنصب على أنه مفعول به.
قال أبو عليّ الفارسي، أي: صدّق الظنّ الذي ظنه. قال مجاهد: ظنّ ظناً، فصدّق ظنه، فكان كما ظنّ، وقرأ أبو جعفر، وأبو الجهجاء، والزّهري، وزيد بن عليّ: {صدق} بالتخفيف، و{إبليس} بالنصب {وظنه} بالرفع، قال أبو حاتم: لا وجه لهذه القراءة عندي، وقد أجاز هذه القراءة الفرّاء، وذكرها الزجاج، وجعل الظنّ فاعل صدّق، وإبليس مفعوله. والمعنى: أن إبليس سوّل له ظنه شيئاً فيهم، فصدّق ظنه، فكأنه قال: ولقد صدّق عليهم ظن إبليس.
وروي عن أبي عمرو: أنه قرأ برفعهما مع تخفيف صدق على أن يكون ظنه بدل اشتمال من إبليس. قيل: وهذه الآية خاصة بأهل سبأ. والمعنى: أنهم غيروا، وبدّلوا بعد أن كانوا قد آمنوا بما جاءت به رسلهم. وقيل: هي عامة، أي: صدّق إبليس ظنه على الناس كلهم إلاّ من أطاع الله. قاله مجاهد، والحسن. قال الكلبي: إنه ظنّ: أنه إن أغواهم أجابوه، وإن أضلهم أطاعوه، فصدّق ظنه {فاتبعوه} قال الحسن: ما ضربهم بصوت، ولا بعصي، وإنما ظنّ ظناً، فكان كما ظنّ بوسوسته، وانتصاب. {إِلاَّ فَرِيقاً مّنَ المؤمنين} على الاستثناء، وفيه وجهان: أحدهما: أن يراد به بعض المؤمنين، لأن كثيراً من المؤمنين يذنب، وينقاد لإبليس في بعض المعاصي، ولم يسلم منه إلاّ فريق، وهم الذين قال فيهم: {إِنَّ عِبَادِى لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سلطان} [الحجر: 42]. وقيل: المراد ب {فريقاً من المؤمنين}: المؤمنون كلهم على أن تكون {من} بيانية.
{وَمَا كَانَ لَهُ عَلَيْهِمْ مّن سلطان} أي: ما كان له تسلط عليهم، أي: لم يقهرهم على الكفر، وإنما كان منه الدعاء، والوسوسة، والتزيين. وقيل: السلطان القوّة. وقيل: الحجة، والاستثناء في قوله: {إِلاَّ لِنَعْلَمَ مَن يُؤْمِنُ بالأخرة مِمَّنْ هُوَ مِنْهَا فِى شَكّ} منقطع، والمعنى: لا سلطان له عليهم، ولكن ابتليناهم بوسوسته لنعلم. وقيل: هو متصل مفرّغ من أعم العام: أي: ما كان له عليهم تسلط بحال من الأحوال، ولا لعلة من العلل إلاّ ليتميز من يؤمن، ومن لا يؤمن، لأنه سبحانه قد علم ذلك علماً أزلياً.
وقال الفرّاء: المعنى: إلاّ لنعلم ذلك عندكم. وقيل: إلاّ لتعلموا أنتم، وقيل: ليعلم أولياؤنا، والملائكة. وقرأ الزهري. {إلاّ ليعلم} على البناء للمفعول، والأولى حمل العلم هنا على التمييز، والإظهار كما ذكرنا {وَرَبُّكَ عَلَى كُلّ شَئ حَفُيظٌ} أي: محافظ عليه. قال مقاتل: علم كل شيء من الإيمان والشك.
وقد أخرج أحمد، والبخاري، والترمذي وحسنه، والحاكم وصححه، وغيرهم عن فروة بن مسيك المرادي قال: أتيت النبي صلى الله عليه وسلم، فقلت: يا رسول الله ألا أقاتل من أدبر من قومي بمن أقبل منهم؟ فأذن لي في قتالهم، وأمرني، فلما خرجت من عنده أرسل في أثري فردّني، فقال: «ادع القوم، فمن أسلم منهم، فاقبل منه، ومن لم يسلم، فلا تعجل حتى أحدث إليك» وأنزل في سبأ ما أنزل، فقال رجل يا رسول الله، وما سبأ: أرض أم امرأة؟ قال: «ليس بأرض ولا امرأة، ولكنه رجل ولد عشرة من العرب، فتيامن منهم ستة، وتشاءم منهم أربعة، فأما الذين تشاءموا: فلخم، وجذام، وغسان، وعاملة؛ وأما الذين تيامنوا، فالأزد، والأشعريون، وحمير، وكندة، ومذحج، وأنمار» فقال رجل: يا رسول الله، وما أنمار؟ قال: «الذي منهم خثعم، وبجيلة».
وأخرج أحمد، وعبد بن حميد، والطبراني، وابن عديّ، والحاكم وصححه، وابن مردويه عن ابن عباس نحوه بأخصر منه.
وأخرج ابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله: {سَيْلَ العرم} قال: الشديد.
وأخرج ابن جرير عنه قال: {سَيْلَ العرم} واد كان باليمن كان يسيل إلى مكة.
وأخرج ابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم عنه أيضاً في قوله: {أُكُلٍ خَمْطٍ} قال: الأراك.
وأخرج ابن المنذر عنه أيضاً في قوله: {وَهَلْ نُجْزِى إِلاَّ الكفور} قال: تلك المناقشة.
وأخرج إسحاق بن بشر، وابن عساكر عنه أيضاً في قوله: {وَجَعَلْنَا بَيْنَهُم} يعني: بين مساكنهم {وَبَيْنَ القرى التى بَارَكْنَا فِيهَا} يعني: الأرض المقدّسة {قُرًى ظاهرة} يعني: عامرة مخصبة {وَقَدَّرْنَا فِيهَا السير} يعني: فيما بين مساكنهم وبين أرض الشام {سِيرُواْ فِيهَا} إذا ظعنوا من منازلهم إلى أرض الشام من المقدّسة.
وأخرج عبد بن حميد، وابن أبي حاتم عنه أيضاً في قوله: {وَلَقَدْ صَدَّقَ عَلَيْهِمْ إِبْلِيسُ ظَنَّهُ} قال إبليس: إن آدم خلق من تراب ومن طين ومن حمأ مسنون خلقاً ضعيفاً، وإني خلقت من نار، والنار تحرق كل شيء لأحتنكنّ ذرّيته إلاّ قليلاً. قال: فصدّق ظنه عليهم {فاتبعوه إِلاَّ فَرِيقاً مّنَ المؤمنين} قال: هم المؤمنون كلهم.

1 | 2 | 3